يسعى هذا الكتاب لرصد طبيعة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه مشروع دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، ويبين أسباب فشل مشاريع النهوض العربية، ويحدد الأسس المجتمعية الضرورية لقيام عقد اجتماعي وحياة دستورية، ويقدم تصورا للمقاربة الأنجع لتحقيق النهضة الثقافية والسياسية المنشودة. ترتكز الخطوة الأولى في الجهد الهادف إلى الوصول إلى دولة المواطنة على فهم علاقات المواطنة وإدراك حقوقها، وتحدد آليات تحول المواطن من رعية يخضع إلى الأنظمة السلطانية إلى شريك في الوطن يتساوى في الحقوق المدنية والسياسية مع جميع من ينتمي إليه، دون تمييز بين المواطنين إلا من خلال التنافس الشريف والعادل لشغل الموقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يتناسب مع قدرات كل منهم وكفاءته.
مشروع المواطنة والعدالة الاجتماعية التي نسعى لرسم معالمه، والبحث في شروط قيامه، وطبيعة الجهود المطلوبة لتحقيقه، لا يقوم على روابط هويات حصرية سواء ارتبطت تلك الهويات بتماثل ديني أو قومي أو عقدي أو مناطقي، بل على روابط القيم الإنسانية المشتركة التي تنطلق من فطرة الإنسان واحتياجات المواطن، والتي ترتكز على قيم العدل والإحسان والدفاع عن المظلوم والوقوف في وجه الظالم والتكافل لتحقيق مجتمع يحقق كرامة الإنسان بوصفه مواطنا ينتمي إلى الوطن. ولكنها في الآن ذاته لا تسعى للقضاء على الهويات، أو فرض هوية منها على الهويات الأخرى بغية إذابتها في الهوية المهيمنة. دولة المواطنة، التي نسعى إلى رسم معالمها في سياق الثقافة العربية المعاصرة، تحترم تعدد الهويات وتعطى أصحابها الحرية الكاملة في التعبير عن ذواتهم، وتحترم حقهم في الاعتزاز بانتمائهم إلى الهويات التي تشكلوا داخلها، طالما احترموا هم أنفسهم حقوق منتسبي الهويات الأخرى، ولم يسعوا إلى استخدام القوة أو السلطة لتعزيز هوياتهم أو توظيف مؤسسات الدولة لتجاوز حقوق من يختلف معهم في الهوية